خلال السنوات القليلة الماضية، انتقل الجمهور الواسع من القراء ومستهلكى الإعلام إلى أجهزة الموبايل والشبكات الاجتماعية، ولم يكن أمام الشركات الإعلامية خيار سوى محاولة الذهاب إليه فى مواقعه الجديدة، وكذلك محاولة فهم كيفية الوصول إلى الجمهور والاحتفاظ به، الأمر الذى استدعى ابتكار أساليب وأفكار جديدة فى كيفية تحريك كل قطعة من المحتوى الإعلامي عبر متاهة معقدة من المنصات والأدوات والتطبيقات لتحقيق أفضل النتائج. وهذا الأمر أحدث تغييرا جوهريا فى الطرق التى تعمل بها غرف الأخبار حول العالم.
الدراسة المستفيضة التى أجراها مركز Tow Center للصحافة الرقمية بكلية الصحافة بجامعة كولومبيا الأمريكية، حاولت فحص أساليب النشر المختلفة التى تستخدمها المؤسسات الإعلامية فى الولايات المتحدة لتحقيق أفضل النتائح من نشر المحتوى عبر المنصات المختلفة، ويرصد المخطط البيانى التالى بعض الخيارات التى يتعامل معها الناشرين فى الوقت الحالى لترويج المحتوى والوصول به إلى أكبر قطاع ممكن من الجمهور.
مصفوفة توضح المنصات المختلفة التى تستخدمها بعض وسائل الإعلام لنشر المحتوى الخاص بها
ومن خلال نظرة سريعة، يمكن أن نلاحظ أن مؤسسة إعلامية عريقة مثل واشنطون بوست تستخدم جميع الأدوات والمنصات المتاحة لتصل إلى الجمهور فى أى مكان ومن خلال أى وسيلة متاحة، كما يمكن ملاحظو أن جميع المؤسسات المذكورة فى الدراسة تستخدم منصات فيس بوك وتويتر وانستاجرام ويوتيوب، بينما يتفاوت استخدام المنصات الأخرى بين مؤسسة إعلامية وأخرى، ملاحظة أخرى مهمة وهى أن التنوع ليس كبيرا بالدرجة التى يبدو عليها الشكل لأنه على سبيل المثال فإن منصات فيس بوك وانستاجرام وواتس آب تمتلكها جميعا شركة فيس بوك، ورغم ذلك تمثل هذه الخيارات مصفوفة مبهرة من الفرص الجديدة للوصول إلى الجمهور. ولكن على الجانب الآخر، فهى تعرض “كل شئ خاطئ فى الصحافة عبر مخطط واحد” كما قالت جيسيكا ليسين مؤسسة نشرة “تكنولوجيا المعلومات”.
ومن بين الخيارات المتعددة، تسيطر منصتا فيس بوك وجوجل على غالبية السوق فيما يتعلق بجذب الزوار إلى المواقع الإعلامية (الترافيك)، وطبقا لموقع Parse.ly المتخصص فى مراقبة صناعة النشر، فإنه بنهاية عام 2016 كان فيس بوك هو المسؤول عن نسبة 45% من الزيارات لمواقع الناشرين، بينما جاء جوجل فى المركز الثانى بنسبة 31%.
التنوع الحاصل حاليا فى المنصات ينعكس بشكل واضح على الناشرين، ويؤثر على قراراتهم التحريرية بشكل كبير، ولكى نفهم الصورة بشكل أوضح، فإن المخطط التالى يوضح الخيارات المعقدة المتاحة أمام الناشر فى شبكة CNN الإخبارية، وهو من إعداد مرديث آرتلى رئيس تحرير القطاع الرقمى فى CNN.
الهيكل التنظيمى للمحتوى التحريرى فى CNN
فى قلب المخطط ترتكز CNN، وفى الدائرة الداخلية الأولى تظهر خيارات النشر الرقمى الأولى–الموبايل ويب، تطبيقات الموبايل، أجهزة الكمبيوتر و CNNgo. وخلف ذلك تأتى طبقة أخرى من منصات الفيديو الجديدة – يوتيوب، تليفزيون أندرويد، تليفزيون أبل، تليفزيون أمازون فاير، وروكو. ثم طبقة الشبكات الاجتماعية والتراسل –فيس بوك لايف، المقالات المباشرة فيس بوك، فيس بوك ماسينجر، مزود أخبار فيس بوك، انستاجرام، تويتر، لاين، كيك، وسناب شات. ثم هناك دائرة خارجية من خدمات “المنصات الناشئة وغير التقليدية” والتى توسع نطاق فكرة الشبكات الاجتماعية: الواقع الافتراضى VR، ساعات أبل وسامسونج، أمازون إيكو، وجوجل AMP.
لكل دائرة من الدوائر الملونة المختلفة يتم اتخاذ عدد من القرارات التحريرية حول ما سيتم نشره، وتوقيت النشر وطريقته، فى بعض الأحيان يتخذ القرارات شخص واحد، وفى أحيان أخرى يحتاج الأمر لفريق كامل كما تقول “آرتلى”، والتى تعمل مع فريق دولى من 50 شخصا يختصون بتجهيز القصص لتوزيعها عبر المنصات المختلفة، وتتحدث عن هدف المؤسسة الحالى بالقول “نريد أن نكون الأفضل عالميا فى انتاج محتوى الفيديو الخبرى المخصص لأجهزة الموبايل، ونوجه كل مواردنا لتحقيق هذا الهدف”.
تعدد المنصات وفرص النشر المختلفة، جعل الكثير من المؤسسات الإعلامية تغامر بنشر جزء كبير من محتواها عبر المنصات مباشرة، وهو ما يحدث تغييرا دراميا فى المشهد، مثلا تقوم شركات الأخبار حاليا بنشر محتواها عبر منصات مثل Apple News ومقالات فيس بوك اللحظية، وانستاجرام، وسناب شات، بدلا من محاولة اجتذاب الجمهور عبر المنصات إلى موقع الناشر الأصلى.
وهكذا فإن أدوات النشر المحلية الجديدة بما فى ذلك صفحات Google AMP ومقالات فيس بوك اللحظية ولحظات تويتر و أخبار أبل وقصص انستاجرام واكتشافات سناب شات تعنى ببساطة أن القارىء ربما يقرأ قصة نشرتها الإيكونومست على جوجل دون أن يلمس تطبيق الايكونومست أو موقعها الالكترونى، والرسم البيانى التالى يعرض الأعداد الإجمالية للقصص المنشورة على المنصات مباشرة مقارنة بالعدد المنشور على الشبكات الاجتماعية برابط يعيد القارىء للموقع الأصلى للمؤسسة الإعلامية، ويمكن ملاحظة اتجاه الصعود السريع للنشر المباشر عبر المنصات.
العدد الإجمالى للقصص المنشورة على الشبكات محليا (منشورة على المنصة مباشرة) مقارنة بالمنشورة على الشبكات الاجتماعية برابط يعيد القارىء لموقع الناشر الأصلى. الرقم اجمالى 14 ناشرا مختلفا تضمنتهم الدراسة
وبينما تحتاج المؤسسات الإعلامية حاليا إلى حضور واضح وملحوظ عبر المنصات المختلفة، إلا أن الطريقة التى يقومون فيها بتوزيع محتواهم –وبالأخص الكمية التى يمنحونها للمنصات مباشرة- تختلف اختلافا جذريا. على سبيل المثال، فإن مقارنة المنشور خلال أسبوع واحد بين نيويورك تايمز وهافنجتون بوست و CNN تظهر هذا الأمر، الناشرون الثلاثة ينشطون على 10 منصات مختلفة، وخلال هذا الأسبوع فإن التايمز وهفنجتون بوست نشروا تقريبا نفس الكمية من المحتوى عبر المنصات المختلفة (1655 و 1673 قطعة بالترتيب).
كمية المحتوى المنشور من نيويورك تايمز عبر المنصات المختلفة خلال أسبوع
كمية المحتوى المنشور من هفنجتون بوست عبر المنصات المختلفة خلال أسبوع
ومع ذلك، فهناك اخلاف كبير فى أسلوب النشر المباشر على المنصة والنشر عبر الروابط. فبينما يعنى المحتوى الأصلى أن القصة يتم استضافتها بالكامل على منصات طرف آخر مثل Snapchat Discover أو Apple News فإن محتوى الروابط يعنى نشر رابط الموضوع الأصلى على الشبكات ليعيد القارىء إلى الموقع الأصلى للناشر. ثلثى عدد البوستات من هفنجتون بوست كانت فى شكل النشر المباشر، بما فى ذلك 695 قصة على Apple News و 305 قصة على منصات فيس بوك. وهذه المنشورات الأصلية على فيس بوك تمثل 98% من إجمالى ما تنشره هفنجتون بوست على تلك المنصة. وعلى العكس من ذلك فإن نسبة لا تتجاوز 16% من منشورات نيويورك تايمز عبر المنصات المختلفة هى من نوعية النشر المباشر، أما النسبة الباقية 84% فهى مصممة لاجتذاب القارىء إلى موقع الناشر الأصلى حيث يستطيع القارىء قضاء بعض الوقت فى التصفح المجانى للمحتوى قبل أن يُطلب منهم الاشتراك فى خدمات الموقع، وربما يعود هذا الاختلاف إلى أن نموذج العمل الذى تتبناه نيويورك تايمز يعتمد بالأساس على دفع الاشتراكات لقراءة المحتوى.
وهناك اتجاه ثالث نراه عبر CNN فى حالة الكرم الشديد للنشر عبر المنصات المختلفة، ومع أن نسبة 59% من المحتوى المنشور عبر المنصات من نوعية النشر المباشر وهى أقل بكثير من نسبة هفنجتون بوست، إلا أن ما يميز استراتيجية CNN هى العدد الكبير من البوستات عبر المنصات المختلفة. الرقم الإجمالى للقصص المنشورة خلال أسبوع الدراسة يصل إلى 2811 قصة (أكثر بنسبة 40% من كل من هفنجتون بوست ونيويورك تايمز) تتضمن 1016 قصة عبر Apple News و 948 تغريدة على تويتر و278 فيديو على يوتيوب. ويظهر أيضا محاولات CNN المستمرة لاجتذاب الجمهور الشاب من خلال قناتها على Snapchat Discover.
محتوى CNN الذى تمت مشاركته عبر المنصات المختلفة خلال أسبوع الدراسة
وإحدى أهم المشكلات التى يواجهها الناشرون فى تلك المتاهة، أن شركات التكنولوجيا لا تمنح الجميع نفس الفرص، بل أنها تختار من تتعامل معه فى الكثير من الأحيان، على سبيل المثال فإن خدمة Snapchat Discovers غير متاحة إلا لعدد محدود للغاية من الناشرين، وفى هذه الحالة تحدد المنصة من تتعاقد معه مع ضرورة التزام الناشر بشروط الأداء.
ورغم عدم وضوح الرؤية فيما يتعلق بالحصول على نسبة معقولة من العوائد الإعلانية مقابل النشر عبر المنصات، إلا أن الملاحظة الواضحة هي أن غالبية المؤسسات الإعلامية الآن لا يمكنها التخلى عن الحضور عبر المنصات الاجتماعية المختلفة إذا كانت ترغب في الوصول لجمهور القراء، كما تؤكده تلك الدراسة.
ايهاب الزلاقى