أحتل التحقق “VERIFICATION” من الأخبار صدارة اهتمامات المؤسسات الإعلامية الكبرى مع بداية هذا العام، وجاء الجزء الأكبر من تقرير “نايمان لاب” السنوي ليتحدث عن الأخبار المفبركة وطرق التحقق وما على المؤسسات الإعلامية أن تقوم به للتأكد من كل خبر ينشر أو يذاع.
ولكي تبنى عملية التحقق بشكل جيد، يجب أن نعود خطوة بسيطة للخلف لنفهم طبيعة البنية الأساسية للتضليل، ما هي، وأين تظهر، وكيف تظهر؟ من هنا يمكن أن نفهم ونفكك منظومة التضليل ونضع قواعد ومسارات للتحقق من كل خبر، وهذا كفيل بمعالجة أخطاء غرف أخبارنا التي تنتج عن التعامل مع عشرات من مصادر المحتوى القادمة لنا من “سوشيال ميديا”، أو على الأقل يقلل من الثغرات التي تسمح بالتضليل أن يتسلل لنا.
ماذا يعنى هذا؟ حسب تحليل دكتورة كلير أردل، مدير الأبحاث السابقة في مركز”Tow” لأبحاث الصحافة الرقمية، التابع لمدرسة الصحافة بجامعة كولومبيا، وتعمل حاليا في مؤسسة “First Draft” وهي مؤسسة غير ربحية تمثل منصة رئيسية للمؤسسات التي تريد أن تتعامل بشكل محترف مع محتوى الشبكات الاجتماعية وتحافظ على مصداقيتها.
تقول كلير:” نحن بحاجة للاتفاق على تصنيف لشرح تعقيدات النظام البيئي للتضليل، وإلى أن نفعل ذلك ستبقى محاولاتنا لإيجاد حلول تدور في دوائر مفرغة”. وتنتقد التعامل مع الأخبار المفبركة باعتبارها غير موجود :”الكثيرون يسيئون استخدام مصطلح أخبار وهمية، باعتقادهم أن هذا يعني أنها ليست موجودة”.
وترصد دكتور كلير على موقع “كولومبيا جورناليزم ريفيو” الشهير، 6 أنواع من الأخبار المضللة أو المفبركة، سوأ تلك التي تقف خلفها جهات أو لجان سياسية، أو تلك التي تستهدف تحقيق ربح مادي عن طريق Clickbait لمحتوى مزيف؛ وإذا طبقناها هذه الأنواع على الواقع المصري، سنجد تطابقًا كبيرًا، بل وسوابق ظهرت في مصر قبل مثيلتها في أي مكان في العالم.
محتوى صحيح نشر في سياق خاطئ:
عن طريق نزعه من إطاره المكاني أو الزماني أو بعدم توضيح مناسبة الكلام نفسه أو السؤال الذي استدعى هذه الإجابة، ويتم نشره أو إعادة انتشاره مجددا في موقف مختلف؛ وهو تقريبًا سيناريو معتاد في مصر، ويحدث بصورة أسبوعية، مثل نشر تغريده صحيحة لشخص ما، ولكن قيلت قبل ثلاثة سنوات ، أو خبر قديم عن ارتفاع أسعار الوقود!
ويكفي أن نبحث على جوجل في إطار هذه الكلمات “إعادة نشر خبر قديم” لنجد عشرات النتائج عن أخطاء وقعت فيها وسائل إعلام شهيرة في مصر، وأحيانا يحدث ذلك دون قصد، بسب أن المحرر لم يلاحظ تاريخ النشر، وللآسف البعض يقع في الخطأ وتبدأ متابعات وتقارير ترصد وتحلل الأمر كانه حدث قبل ساعات ؛ ربما لاعتقاد بعض غرف الأخبار أن عقاب وعاقبة تفويت القصة، أكبر من عقاب وعاقبة عدم صحتها!
أخبار مفبركة تستغل علامات تجارية إعلامية شهيرة:
مرة أخرى هذا النوع متوفر في مصر بكثرة، وللآسف بعض وسائل الإعلام الشهيرة تذيع أو تنشر مثل هذا المحتوى، نقلا عن صحف أجنبية ووكالات أنباء لم تنشر يوما حرفًا مما نسب لها، لأنهم اكتفوا أن ينقلوا عن مصدر، نقل بدوره عن مصدر، وهكذا، ويكفي أحيانًا أن يقع موقع واحد في الفخ، لتتبعه الكثير من المواقع والقنوات التلفزيونية.
وهناك أيضا تغريدات أو تدوينات كثيرة مثيرة للجدل وتنسب لشخصيات شهيرة، وغالبا ما يكون انتشارها على هيئة “صورة” ويتم تداولها، ومرة أخرى تنشرها بعض المواقع وتذيع بعض القنوات دون تحقق أو اتباع إجراء بسيط بالبحث عن الحساب الأصلي، وتطبيق أول وأدني مستوى من التحقق.
مواقع مُفبركة:
لدينا في مصر وفرة كبيرة من هذه النوعية من المواقع المبنية بصورة كاملة على منظومة التضليل أو سرقة المحتوى؛ وبعضها أما ينشر باسم مستقل، ولكن بمحتوى مفبرك أو مسروق من مصادر أصلية، وأحيانا يتم تحريف المحتوى بإضافة بهارات لتسخين القصة، مثل موقع “الموجز” الذي لا يعرف على وجه التحديد أين هو، ولا من هم القائمون عليه.
وهناك نمط أخر قائم على سرقة اسم مؤسسة اعلامية مع تحريفه قليلا، مثل ما يقوم به موقع “الأهرام المكسيكي”، ورغم أنه موقع ساخر، لكنه يتعمد تضليل الناس بالاسم وبطريقة عرض المحتوى، ولدينا حالات كثيرة لبرامج “توك شو” رئيسية نقلت نيابة عنه.
معلومات مٌفبركة:
جولة بسيطة على صفحات فيس بوك في مصر كافية لاكتشاف أطنان من المحتوى الذي يتداوله الناس يوميا، دون مصدر معلوم أو حتى مجهول، مجرد كلام مرسل
دون وسيلة للتحقق والاستدلال، وتبدأ في الانتشار من على حساب ما هنا أو هناك، والغريب أن الكثير من المشاهير يقعون في هذا الفخ!
رغم أن هناك أدوات كثيرة يمكن أن تساعد في كشف هذه الأخبار، عالميًا أشهرهم على الإطلاقsnopes، وهذه قائمة مفيدة، وفي مصر هناك جهد بسيط لكن جيد تقوم به صفحة “ده بجد“، وللآسف ليس هناك جهة أو مؤسسة في مصر معنية بالتحقق من المعلومات والأخبار بصورة احترافية، في ظل بدء انتشار مثل هذه المراكز بكثرة في أوربا وأمريكا، في إطار جهود محاربة الأخبار المفبركة.
محتوى متلاعب فيه:
ويحدث كثيرا في صور أو فيديو منشور على شبكات التواصل الاجتماعية، ثم نكتشف أن هناك عملية مونتاج حدثت للصورة أو فيديو، وأحيانا يحدث ذلك من قبل مؤسسات محترفة ، وبعض وكالات الأنباءالعالمية وقعت في ذلك، وكذلك مؤسسات مصرية، كما حدث في صورة الرئيس الأسبق مبارك، هنا أبرز الأمثلة التي انتشرت العام الماضي فقط.
وفي كل الأحوال نستطيع أن نقول الخطأ وارد، ولكن تكراره بنفس الآلية التي صنعته ليس منطقي، لأن الطبيعي أن أي خطأ يتبعه اعتذار، مقترن بخطوات عملية لمراجعة دورة العمل لاكتشاف كيف وقع الخطأ، وتطبيق نظام مختلف لسد الثغرة، وعدم تكرار مثل هذا الخطأ بنفس الطريقة.
محتوى هزلي Parody content:
تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي حسابات كثيرة ساخرة، مثل حساب باراك حسين أوباما الذي يصل عدد متابعيه 335 ألف، ولو بحثت عن أسم محمد مرسي أو سوزان مبارك ستجد عشرات من هذه الحسابات الوهمية، المشكلة أن بعض الأشخاص، ومرة أخرى بعض المواقع وبرامج “توك شو” تنقل عنها باعتبارها حسابات حقيقة، ما دفع الخارجية الأمريكية أن تصدر بيان سمي للتنصل من هذا الحساب.
بالطبع هناك أمثلة أخرى عديدة للأخبار المفبركة أو المضللة أو غير الصحيحة، وكل مسار قد يستدعي نمط مختلف من التعامل والمعالجة.
ولكن الواقع أن نصف ما سبق على الأقل، يمكن للمؤسسات الإعلامية أن تتجنبه بسهولة وتحافظ على صورتها، ليس فقط كمكان موثوق به، ولكن أيضا كمان محترف لا يقع في مثل هذه الأخطاء الساذجة؛ وهذا يعنى الالتزام باستخدام أدوات التحقق سواء المهنية أو التقنية، وإعادة تصميم دورة العمل في غرفة الأخبار، والمزيد والمزيد من تدريب المحررين، بل وتوعية القراءة، وإلزام غرف الأخبار
بتطبيق قواعد الشك والتنصل في الصحافة.
حاليا ما يزيد عن نصف سكان كوكب الأرض متصلين بالإنترنت، وأغلبهم لديه سمارت فون بكاميرا وبتطبيقات عديدة، ويمكن بسهولة وبشكل مجاني أن يذيعوا أي معلومات على الشبكات الاجتماعية التي تشجعهم على نشر محتواهم مجانا.
وهذا يعنى أننا كصحفيين وكمؤسسات إعلامية نحتاج الي إعادة التفكير في طبيعة دورنا وسط هذه المصادر الجديدة التي دخلت للسوق، خاصة وأننا متأثرين بها لا مؤثرين.
والواقع يقول أن صناعة الأخبار نفسها تتغير بصورة لم يعرفها العالم من قبل، ليس منطقي أن تكون كل مهمة الصحفي أن يسارع للبحث عن أخبار جديدة، وكلنا يعرف 95% منها بيانات صحفية أو تصريحات عامة أو عبر الشبكات الاجتماعية.
يجب أن تشغل بالنا الآن مهمة التحقق من تلال المعلومات وتنظيمها وصياغتها ومعالجتها وابتكار طرق تقديمها، هذه هي القيمة الخبرية الحديثة؛ وهذا ما يمكن أن يهتم به الناس ويدفعون له لأنهم يحتاجونه، ولا يستطيعون بأنفسهم فعله، باختصار لأنه نادر، والقيمة = الندرة.
التحقق من المعلومات، ورصد الوقائع، وتفسيرها، وتحويلها لحقائق مفهومة أمر ليس بهين ويحتاج خبرة ومهارة المفترض أنها لدي كل صحفي محترف، وإلا ستقوم شركات التكنولوجيا بابتكار لوغاريتمات تقوم بدورنا، وهذا ليس سيناريو مستبعد أبدا!