كتب: إيهاب الزلاقي
تؤثر التغيرات التقنية التى تحدث فى مختلف المجالات على صناعة الصحافة بشكل كبير، وفى الحقيقة لا يمكن اليوم النظر إلى الإعلام دون تأمل التطورات الهائلة بداية من ظهور شبكة الإنترنت وما تلاها لاحقا من تطورات ليس آخرها سيطرة الشبكات الاجتماعية على المشهد. ولكن أحدث التطورات التى يجب وضعها فى الاعتبار هى تقنيات الذكاء الصناعى. تقرير حديث أصدره مركز أبحاث الصحافة “بوليس” بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بالتعاون مع مبادرة “جوجل للأخبار” يحذر بشكل واضح غرف الأخبار العالمية من تجاهل التطور بالقول: إما التعاون مع المنافسين فى توطين التقنيات الجديدة أو مواجهة الخروج من السوق تماما. الدراسة التى حملت عنوان “صلاحيات جديدة.. مسؤوليات جديدة” عبارة عن استبيان ومسح عالمى لأوضاع الصحافة والذكاء الصناعى.
استطلعت الدراسة على مدار سبعة أشهر آراء 71 مؤسسة إعلامية دولية حول درجة استخدامهم لتقنيات الذكاء الصناعى فى أغراض تخص عمليات التحرير وإنتاج المحتوى، حيث أثبتت الدراسة أن 37% فقط من هذه المؤسسات تمتلك استراتيجية للتعامل مع الذكاء الصناعى.
وحول هذه النتائج، قال تشارلى بيكت، مدير مركز “بوليس” التى أجرت الدراسة، إن غرف الأخبار لديها فترة زمنية تتراوح بين عامين وخمس أعوام بحد أقصى لتطوير استراتيجية منطقية للتعامل مع هذه التطورات، أو المخاطرة بالخروج من المشهد الرقمى تماما. مشبها الموقف بسباق الماراثون وليس سباقات العدو، قائلا: “يجب على المؤسسات أن تبدأ الجرى الآن”.
ويوضح بيكت الموقف بالقول: “أمامك عامين لبدء الركض، أو على الأقل تحديد مسار الرحلة، وهذا المسار إذا لم يكن نشطا وفاعلا خلال خمسة أعوام فسوف تفقد الفرصة المتاحة. وإذا فاتت هذه الفرصة فسوف تكون متأخرا للغاية مقارنة بالآخرين”.
وحتى فى أقل مسار ممكن للتعامل مع هذه التقنيات، فإن المعدلات السريعة لتطور مجالات مثل معالجة اللغات الطبيعية، والترجمة، وتخليق النصوص، والتزييف العميق تعنى أن غرف الأخبار لا تستطيع اللحاق بهذه الدرجة من السرعة، وأن الفجوة المعرفية بين ما يحدث من تطور تكنولوجى وأوضاع غرفة التحرير سوف تتسع بشكل كبير.
ويشرح بيكت: “تسارعت وتيرة تطور وإنتاج المحتوى المزيف بشكل عميق خلال الشهور القليلة الماضية بشكل كبير من تجارب داخل المختبرات إلى أدوات يمكن حتى للأطفال أن يستخدموها، وفى الحقيقة نحن لا نحاول إثارة الذعر، خاصة وأن التقرير يؤكد على العناصر الإيجابية للإعلام فى استخدام تقنيات الذكاء الصناعى، إلا أن هناك شعور حقيقى بالإلحاح فى هذه المرحلة”.
وبالنظر إلى الصناعات الأخرى، فمن الواضح أن الذكاء الصناعى يشكل سلوك العملاء، ويتوقع الناس الآن الحصول على الخدمة المخصصة لكل منهم، سواء فى البيع بالتجزئة أو الإسكان، للإنتاج والتوريد وصولا إلى إنشاء المحتوى. وتقوم تلك الصناعات باستخدام الذكاء الصناعى بسبب الكفاءة التى يمتلكها، وقدرته على تعزيز الخدمات والمنتجات التى يبيعها المنتج.
ويستكمل بيكت: “إذا كنا كصحفيين نعيش فى هذا العالم، فإن الصحافة سوف تبدو متراجعة عن المشهد بأكمله إذا لم تمتلك هذه القدرات، وإذا لم تتعاون الصناعة الإعلامية بالكامل فلن تعتبر فقط من الحفريات المنقرضة ولكنا ربما لا تتواجد من الأساس”.
يسلط التقرير الضوء على كيفية توفير الذكاء الصناعى المزيد من القدرات الجديدة للصحفيين عبر جميع العمليات التحريرية، بدءا من جمع الأخبار وحتى عملية التوزيع، كما يوضح كيف يمكن لمؤسسات الأخبار التى ترغب فى استكشاف هذه الإمكانيات جاهزة للتعامل مع الآثار التحريرية والتقنية لهذه التكنولوجيا والأدوات.
على أحد الجوانب، تعد تقنيات الذكاء الصناعى بتوفير الوقت للصحفيين للعمل على الجوانب الأكثر إبداعا فى إنتاج الأخبار، لتترك المهام الشاقة المتكررة للآلات. وذلك فى الوقت الذى تناضل فيه المؤسسات الإعلامية للبقاء وسط الضغوط الاقتصادية وأيضا لكسب ثقة القراء.
وعلى الجانب الآخر، من خلال عمليات التخصيص، والتوصيات الذكية يمكن لتقنيات الذكاء الصناعى أن تساعد الجمهور على التغلب على كثرة الأخبار، وربطهم بطريقة مبتكرة ومريحة بالمحتوى الموثوق ذى الصلة باهتماماتهم.
ويحذر التقرير أيضا من خطورة اعتبار الذكاء الصناعى مجرد وسيلة لخفض التكاليف، ولكن استخدامه الأفضل سيكون لفائدة الصحفيين الذين يقومون بإنتاج المحتوى الصحفى الذى نقوم باستهلاكه. كما يصرد الفجوة المتزايدة بين المؤسسات الكبيرة ذات الموارد القادرة على الاستفادة من جميع إمكانيات هذه التقنية والمؤسسات الأصغر التى تخاطر بالتخلف عن الركب.
وعلى الرغم من أجراس الإنذار التى تقرع فيما يتعلق بهذا الوضع، إلا أن دمج الذكاء الصناعى فى العمليات التحريرية من المؤكد أن يقدم الكثير من الفوائد، بما فى ذلك التخلص من العبء الناتج عن المهام الطويلة المتكررة، أو تصفح قواعد البيانات العملاقة من أجل الخروج بقصة تهم المجتمع المحلى، وبينما تظهر بعض غرف الأخبار العالمية متطورة للغاية فى هذا المجال، إلا أن إدماج التغييرات المطلوبة وتغيير الثقافة السائدة وتنفيذ العمليات التشغيلية لدمج تلك التقنيات يمثل تحديا كبيرا لغرف الأخبار المحلية والإقليمية التى تعانى من الضغوط الإقتصادية.
ويوضح التقرير بالتفصيل أن العديد من غرف الأخبار تكافح ليس فقط بسبب الضغوط المالية، ولكن أيضا بسبب نقص الخبرة والاستراتيجية الإدارية والوقت لوضع الذكاء الصناعى ضمن جدول الأولويات، بالإضافة إلى وجود الكثير من الشكوك حول جدوى تلك التكنولوجيا، وبعض هذه الشكوك تدور حول “انحياز الآلة” وتأثير التعلم الآلى على القرارات التحريرية.
فى الوقت نفسه يقدم التقرير مسارات من ثمانى نقاط رئيسية لدمج الذكاء الصناعى فى غرف الأخبار، حتى للمؤسسات التى تبدأ من الصفر دون خبرات أو تجارب سابقة. وهذه الخطوات تبدأ من تقييم الجاهزية لاستخدام الذكاء الصناعى حتى إنشاء أدوار ومهام محددة باستخدام موارد الذكاء الصناعى.
ولكن أيضا، فإن الحوار وتبادل أفضل الخبرات والممارسات من المؤسسات التى تعيش ظروفا متشابهة من الأمور المهمة أيضا. وهنا فإن التعاون مع الآخرين لن يكون مجرد فكرة لطيفة ولكنه سيكون أحد الترتيبات التجارية المطلوبة فى المستقبل.
ويشرح بيكت تصوراته للتعاون بالقول: “قد تقوم إحدى المؤسسات بتطوير برنامج لتعلم الآلة، ثم الاستفادة من التجربة ببيعه إلى غرف الأخبار الأخرى، أو مشاركة البيانات التى تم إنتاجها مع الآخرين لتحقيق استفادة سريعة فى تطوير غرف الأخبار، كما أن تطوير معالجة اللغة الطبيعية مثلا يحتاج إلى مجموعة كبيرة من الصور، وقد لا تمتلك إحدى المؤسسات هذه القدرات فتضطر للتعاون مع الآخرين، وفى حقيقة الأمر فإن مسألة التعاون بين المتنافسين فى هذا الإطار سيكون ضرورة حتمية”.
وكما يقول الخبراء فإن وجود منافسة صحية يستلزم بالأساس وجود بيئة أعمال صحية، كذلك فإن الحصول على التكنولوجيا بشكل صحيح يتيح لغرف الأخبار أن تركز بشكل أكبر على ما تفعله من إنتاج المحتوى المختلف والمميز، كما تتيح للغرف أن تركز فى إنتاج محتوى مختلف عن المنافسين. ومع أن الذكاء الصناعى لن يكون منقذ الصحافة ولكنه على الأقل سوف يسمح للصحفيين بمغادرة المكتب بشكل أكثر من أى وقت مضى للقيام بالمزيد من العمل الميدانى.
لمطالعة نص التقرير:
https://blogs.lse.ac.uk/polis/2019/11/18/new-powers-new-responsibilities/?fbclid=IwAR0BJQXaRcgzqcQWsmaO4OpDGb7CSM_63kArJ4ZJNB7dj9_iwV-fw_-s_Mo