كتب: ايهاب الزلاقى
نواصل فى هذا الجزء استعراض مستقبل الأعمال فى وسائل الإعلام فى فترة ما بعد كورونا، كما استعرضه البروفسور راسموس كليس نيلسن فى مقال مطول لمعهد رويترز للإعلام، وفى هذا الجزء يتحدث الخبير عن الآثار على الصناعة على المدى البعيد.
التأثير على المدى البعيد
ما الذى سيحدث فى المراحل اللاحقة؟ بالطبع يعتمد هذا الأمر على العديد من العناصر وعلى شدة وطول فترة الوباء. حتى الآن قال أنجل جوريا الأمين العام لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية إن الصدمة الاقتصادية ستكون أعنف من الأزمة المالية التى شهدها العالم عام 2008، وأن الاعتقاد بالعودة السريعة للتعافى لن يكون أكثر من “أمنيات”.
الاقتصاد البريطانى على سبيل المثال، فى حالة ركود بالفعل، والسؤال الوحيد حقا هو مدى سوء الوضع، وما إذا سيكون ركودا حادا أم سيتحول إلى كساد كامل مع سنوات من التدهور الاقتصادى. وغنى عن القول أنه فى هذه المرحلة لا أحد يعرف بالضبط ما الذى سيحدث. لكن فى الوقت الحالى تتراوح التوقعات من البنوك المختلفة للنمو الاقتصادى فى المملكة المتحدة فى 2020 أنه سيهبط من -1.1% إلى التوقعات المتشائمة بهبوطه إلى -7.9%. وللمقارنة تقلص الاقتصاد البريطانى ليصل إلى 4.2% فى عام 2009 وهى النقطة المنخفضة فى ظل الأزمة المالية العالمية. وإذا استمر الوباء نشطا حتى يتوافر لقاح شامل فى السوق فمن المرجح أن تكون الأرقام أسوأ بكثير.
ما الذى تعنيه هذه النظرة الاقتصادية القاتمة على بيزنس صناعة الأخبار على المدى البعيد؟
الركود أو الكساد لفترات طويلة سيعنى سنوات هزيلة فى انتظار وسائل الإعلام الإخبارية، خاصة المطبوعة منها. وعلى الرغم من عدم وجود نمط عالمى أو بحوث ذات صلة حتى تاريخه، من المهم الإشارة إلى مقالة تناولت هذه التأثيرات والتى وجدت أنه مع بعض الاختلافات من بلد إلى آخر، انخفضت نفقات الإعلانات بمتوسط 5% عندما حدث انخفاض بنسبة 1% فى الاقتصاد الكلى، وأن تأثير الانكماش الاقتصادى على نفقات الإعلان المطبوع كان فى المتوسط 4 أضعاف التأثير على نفقات الإعلان التليفزيونى، ويمكن أن نتخيل تأثير انخفاض الناتج المحلى الإجمالى بنسبة 7.9% كما يتوقع الخبراء حاليا.
أيضا فإن الركود والكساد طويل الأجل قد يدفع الناس إلى التفكير فى مجالات الإنفاق، بما فى ذلك وسائل الإعلام، ونظرا لتنافس المزيد والمزيد من مقدمى الخدمات على أموال الناس، فمن المحتمل أن يؤثر هذا الأمر على العديد من وسائل الإعلام بشدة خاصة من ناحية عائدات القراء، حيث سيقرر القارىء أن ينفق على خدمات أقل. فى تقرير الأخبار الرقمية الذى قدمته رويترز عام 2019 وعند سؤال المشاركين عن الاشتراك الذى سيختارونه إذا كان عليهم اختيار واحد فقط،
قال 12% منهم أنهم سيختارون الأخبار، وذلك مقابل 28% قالوا أنهم سيختارون الدفع لخدمة بث الفيديو “نتفليكس”.
وماذا بعد أن يتعافى الاقتصاد؟ من المغرى التفكير فى أن أعمال “الأخبار” ستعود إلى ما نعتبره “طبيعيا” قبل تفشى الوباء، ولكن إذا مر العالم بأشهر وربما سنوات من الاضطراب العميق، فسوف يستمر التحول الهيكلى المستمر نحو بيئة إعلامية أكثر رقمية وأكثر حركة وأكثر سيطرة عليها من المنصات، مع كل ما يصاحب هذا الأمر من تدمير إبداعى، ومن المرجح أن يسرع تفاقم الفيروس وتيرة هذا التحول.
فى المستقبل المنظور سيقضى الناس الكثير من الوقت عبر الإنترنت، وحتى الآن لدينا أمثلة قليلة عن عودة الناس إلى الوسائط غير المتصلة بالشبكة بمجرد ارتباطهم بالوسائط الرقمية.
ونعم، يتوافد الناس بكثرة على المواقع الإخبارية والقنوات التليفزيونية فى الوقت الحالى، والجميع يهتم بالبحث عن المعلومات الموثوقة. لكن من المؤسف أنه ليس من الواضح تماما أن الجمهور يعتبر أن وسائل الإعلام الإخبارية هى دائما الأفضل، أو حتى الأكثر مصداقية من مقدمى هذه المعلومات.
ربما يتغير هذا الوضع، ولكن الوباء وصل إلى العالم فى سياق يتميز فى العديد من البلدان بأزمة ثقة عميقة فى وسائل الإعلام الإخبارية. فى استطلاع تم إجراؤه أوائل مارس الماضى، ذكر المشاركون أسماء المؤسسات الإعلامية الكبيرة التى يحصلون منها على المعلومات حول الفيروس، ولكن فى الوقت نفسه قال الاستطلاع أن وسائل الإعلام والصحفيين كانت من بين مصادر المعلومات الأقل موثوقية.
شهدت الولايات المتحدة زيادة كبيرة فى عدد تنزيلات التطبيقات الإخبارية فى الأسابيع الأخيرة، إلا أن تنزيلات مجمعات الأخبار من مختلف المصادر تفوق بكثير عدد التنزيلات من كبار الناشرين مثل CNN أو فوكس نيوز أو واشنطون بوست، كما كان هناك نمو كبير فى معدلات استهلاك الأخبار عبر الإنترنت، ولكن المؤكد أن جزء من هذا الأمر يعود لزيادة حركة الإنترنت العالمية بشكل عام بنسبة 50%.
ونعم، سيتعافى سوق الإعلان مع تعافى الاقتصاد، ولكن الانفاق الإعلانى المتجدد لن يعود بالضرورة إلى نفس القنوات الإعلانية، حيث ستحاول الشركات التى تحاول إعادة بناء نشاطها التجارى إعادة تقييم انفاقها الإعلانى، كما ستسعى إلى زيادة عائد الاستثمار إلى أقصى حد، وأى وسيط لا يمكنه تقديم دليل على ذلك سيشهد انخفاضا دائما فى الإعلانات حتى عندما يتعافى الانفاق الكلى. هذا ما حدث بالضبط بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، انتعشت الإعلانات من جديد، ولكن الإعلانات فى الصحف لم تعد أبدا إلى سيرتها الأولى.
على المدى الطويل، سوف تحتاج وسائل الإعلام الإخبارية التى ترغب فى الازدهار إلى التركيز على تطوير الأعمال والعروض التحريرية التى تريدها فى المستقبل، وليس محاولة استعادة العروض التجارية والتحريرية التى كانت تقدمها فى الماضى. الماضى هو الماضى، لن يعود مرة أخرى. وإذا لم نكتشف ذلك، فإن تخفيضات العمالة على المدى القصير ستكون هى الأولى من بين العديد من جولات تسريح العاملين.
إذن، ماذا بعد؟
بينما يتبنى العالم التباعد الاجتماعى، وغسيل الأيدى، وتتبع نصائح خبراء الصحة العامة، فى الوقت الذى نعمل فيه على إدارة القلق وجميع الضغوط المشتركة من المسؤوليات الشخصية والمهنية، من الطبيعى أن تتمنى أن يظهر شخص ما ليتولى عملية الإنقاذ. ربما يكون ذلك الشخص هو الحكومات، أو ربما شركات المنصات الرقمية التى ترغب فى التأكيد على مدى أهمية الأخبار لهم وللمجتمع، وربما يكون الإنقاذ على يد المتبرعين والمحسنين. فى المملكة المتحدة، أعلنت الحكومة عن حزمة طوارىء مالية بقيمة 330 مليار جنيه استرلينى، إلا أنه على الرغم من اعتراف وزير الثقافة أوليفر دودن بأن الأخبار “لم تكن أكثر أهمية مما هى عليه الآن”، لم تخصص الحكومة من هذه الحزمة أى مبلغ لدعم الصحافة المستقلة.
أعتقد أنه من الواضح أن هناك عددا من العناصر التى يمكن لواضعى السياسات القيام بها لخلق بيئة أكثر تمكينا لوسائل الإعلام الإخبارية المستقلة، ولكنهم لم يفعلوا ذلك قبل انتشار الوباء، ولا أعتقد أن هذا الأمر سيكون على قائمة اهتماماتهم بعد الوباء أيضا.
لذا، لا يجب علينا أن نتوقع الحصول على المساعدة. وحتى يتغير هذا الوضع فنحن وحدنا.
وبصراحة مطلقة، أعتقد أن الكثير من وسائل الإعلام لن تنجو، بما فى ذلك بعض المؤسسات العريقة أو من الوافدين الجدد، سواء حاولت المؤسسات القديمة إدارة التدهور، أو حاولت المؤسسات الجديدة الكفاح من أجل الاستدامة. بعض الأعمال الناشئة سوف تحتفى كليا، بعض المؤسسات العريقة سوف تتضائل إلى مطبوعات محدودة دون غرفة أخبار واضحة (الأمر الذى تمت ملاحظته بالفعل فى الولايات المتحدة فى بعض المطبوعات المحلية)، أو سيتم الاستحواذ عليها كأصول تذكارية من قبل أفراد أثرياء. بعض هذه الخسائر ستكون مأساوية للعديد من المجتمعات التى لا تمتلك أى مصدر آخر للمعلومات الموثوقة يمكن أن تلجأ إليه.
ولكن حتى لو أغلقت بعض المنافذ، وتضاءل تأثير الكثير، أعتقد أيضا أنه سيكون هناك فرصة للبعض منها. فى المملكة المتحدة، تحول فجأة الراغبين فى “تدمير” الـ BBC إلى الهدوء الكامل مع تحول الجمهور بكثافة إلى وسائل الإعلام العامة. هذه المؤسسات الإخبارية غير الهادفة للربح ذات المهمة الواضحة والتى تلتزم بخمة الجميع، وذلك فى الوقت الذى أثبتت فيه المؤسسات التى تعتمد على نماذج الاشتراك أن ما يقدمونه يستحق الدفع من أجله.
لن ينجح الجميع، لكن البعض سيفعل ذلك. فيروس كورونا جعل العديد من الأشياء أكثر صعوبة، بما فى ذلك أعمال مؤسسات الإعلام الإخبارية. سوف تعانى الأنماط القديمة من وسائل الإعلام المحلية، وكذلك المنافذ غير المستقرة التى تخدم المجتمعات المحرومة، والشركات الناشئة فى تلك الفترة الحساسة. ما سيكون ضربة كبيرة فى الأسواق المتقدمة مثل المملكة المتحدة سيكون كارثة فى بلدان أخرى. ولكن هذا التغيير الكبير سيخلق مساحة لأشكال جديدة من العمل تتجاوز الأنماط القديمة. ورغم ذلك، لا يعنى هذا الأمر أنه لا توجد فرصة للتعاون بين أصحاب المثل التحريرية، وأصحاب النظرة الواقعية التجارية، فى العمل سويا لبناء مستقبل مستدام للصحافة المتميزة ذات القيمة المتنوعة، محليا ووطنيا بطموحات عالمية.
أدى الوباء العالمى إلى تأثيرات فادحة على صناعة الأخبار ومهنة الصحافة، وهذا الأمر يلقى على الجميع عبء تفعيل الجانب الإبداعى الضامن لاستمرار المهنة. رغم كل شىء، يحتاج الناس إلينا، لذا دعونا نفعل ذلك.