ولكن مهلا، يجب أن يكون لديكم في البداية واحدة، لكي تعيدوا النظر فيها؛ فلا يمكن أن تصححوا استراتيجية أنتم أصلا لم تشرعوا في بنائها.
في الأعداد الأولى لـ”النيوزليتر” تحدثنا عن ملامح تأسيس استراتيجية إعلامية على الشبكات الاجتماعية، وطرحنا وقتها سؤالين، الأول: يتعلق بكيفية التعامل مع هذه الشبكات، وأفضنا قليلا في هذا الاتجاه؛ وظل لسؤال الثاني معلقا، ومفتوحا للنقاش؛ وهو كيف نتعامل مع الخطر الذي قد تمثله الشبكات الاجتماعية على المؤسسات الإعلامية؟ وكيف نخطط وندبر لبدائل حتى لو نجحت بعد خمس أو عشر سنوات ؟
مع تطور الأحداث، وتغول الشبكات الاجتماعية على المحتوى، وتحديدا فيس بوك، بات على المؤسسات الإعلامية أن تفكر جديًا في شكل ومستقبل تواجدها على هذا الشبكة الضخمة التي تضم 1.9 مليار مستخدم، وتستحوذ هي ومنتجاتها الرئيسية الأخرى “ماسنجر، واتس اب، وانستجرام”، على أكثر 70% من حركة المستخدمين على الشبكات الاجتماعية في العالم!
المعنيون بالأمر في المقام الأول، المؤسسات الإعلامية الكبرى، فهي التي لديها رفاهية أن تستثمر أكبر من نطاق عملياتها اليومية، وتفكر في مستقبلها بعد 5-10 سنوات، ومع ذلك يمكن دائما للمؤسسات المتوسطة والصغيرة أن تشارك في الحوار، بل وتشارك في الفعل، عبر مبادرات جماعية لبناء منصات جديدة خاصة بوسائل الإعلام، أو بناء تحالفات تمكنها من التفاوض العادل مع العملاقين جوجل وفيس بوك، كما يحدث في فرنسا والمانيا وانجلترا حاليًا.
وهذا لا يعني شيطنة فيس بوك، فهو بالنسبة للكثير من وسائل الإعلام طوق نجاة وقناتها الوحيدة للتواصل مع الناس، وفي النهاية هي أول منصة في التاريخ تتيح تواصل مباشر بين وسائل الإعلام والجمهور بهذا الشكل الضخم، ولكن لهذا تحديدا يجب أن نفكر، في موقفنا الآن، وفي المستقبل.
ماذا فعلت الشبكات الاجتماعية لاصطياد الإعلام؟
قبل خمس سنوات كانت “متوسط” نسبة الزيارات “الصحية” التي تأتي من الشبكات الاجتماعية على المواقع الإخبارية تتراوح بين 30%، ونسبة 30% من محركات البحث، ونسبة الزائرين المباشرين تقريبا كانت أيضا 30%؛ وتبقى نسبة 10% الباقية للزيارات المدفوعة، وبرامج تبادل الزيارات، وخدمات مثل نيوزليتر، والتطبيقات، إلخ.
وكانت تبدو نسبة منطقية ومتوازنة أيضًا، ولكن ما حدث أن الشبكات الاجتماعية استطاعت أن تقلب المعادلة لصالحها، والتهمت تحديدا النسبة الأكبر من الزائرين المباشرين.
ولكي نقف على خطورة الأمر، يجب أن نتخيل الأمر كما لو أنكم تملكون منفذ بيع، ولديكم زبائن يأتون بناء على سؤال دائرة الأصدقاء، ونوع ثاني يأتي عن طريق البحث والصدفة المنظمة (SEO)، ونوع ثالث يأتي مباشرة لأنهم “زبائن المحل”. ترى ما هي الفئة الأكثر أهمية لكم؟
ما فعلته الشبكات الاجتماعية أنها خطفت النسبة الأكبر من الزبائن الدائمين، الذين كان جزءً من روتينهم اليومي أن يتصفحوا ويكتبوا .comاسم موقعك.www ليعرفوا ما الجديد لديكم.
ولم تكتفى بخطف الزبائن، بل وقامت أيضا بخطف منصات المحتوى نفسه، فاذا كان لديك محتوى فيديو، فالأوفر على المدى القصير أن تضعه على يوتيوب، والبومات الصور هناك “فليكر وبنترست” بل والقصص نفسها ترفع مباشرة على سناب شات، وهناك Apple News، ثم دخلت على الخط فيس بوك Instate Article ، تلتها جوجل عبر خاصية AMP.
رصدت دراسة حديثة قام بها مركز Tow للإعلام الرقمى التابع لمدرسة كولمبيا للصحافة، تحول الشبكات الاجتماعية الي منصات نشر مباشرة، وحذر من تحول الكثير من المؤسسات الإعلامية الي منظومة الإنتاج وترك التوزيع على الأخرين، وقالت الدراسة القيمة للغاية أن “أغلب العاملين في غرف الأخبار بات لديهم تخوف من قدرتهم على التحكم في قنوات النشر التي يعملون عليها+ قوة علامتهم التجارية+ استدامة حوار مع القارئ”.
في مصر
بنظرة سريعة على مواقع الصحف والقنوات المصرية، ستخبرنا أن الأوضاع متشابهة جدا بل ربما تكون أسوأ، فرغم ضجيج المؤسسات الإعلامية الغربية والأمريكية ومؤشرات الخطر التي تطلقها، فهي تحصل في النهاية على بعض العائدات من فيس بوك وأيضا من جوجل؛ ولكن بالطبع قليلة ولا تتناسب مع كونهم هم من ينتجون المحتوى.
في مصر، تقريبا الموقعين الرياضيين يلا كورة وموقع في الجول ينفردان بظاهرة أن أغلب الزيارات التي تأتي لهم تكون مباشرة دون المرور على الشبكات الاجتماعية، وتتقدم كذلك على الزيارات القادمة من محركات البحث، وهي ميزة لو تعلمون عظيمة.
ماعدا ذلك تقريبا كل المواقع المصرية لديها خلف في ميزان الزيارات، والنسبة الأكبر على الإطلاق تأتي من الشبكات الاجتماعية ، البعص لديه نسبة 80%! وهذا يضعها دائما تحت رحمة فيس بوك، فهي مضطرة للدفع لتحصل على معجبين لصفحاتها؛ ثم هي مرة أخرى مطالبة بالدفع لكي يشاهد الجمهور المحتوى الذي تضعه على صفحاتها، وهكذا يتكرر الأمر.
ولم نسمع عن موقع مصري وقع اتفاقية مع “فيس بوك”، أو حصل على دعم مالي منه كما حدث من قبل مرات عديدة مع وسائل إعلامية من كل أنحاء العالم، بل وفي منطقتنا، عندما دفع فيس بوك قبل عام لقناة الجزيرة ما يقرب من 1 مليون دولار لتشجيعها على بث فيديوهات حية عبر صفحتها!
ما العمل؟
لا يمكن أبدا أن تحل مشكلة لا تشعر بها، ولا تناقشها، بل ولا تعترف بها.
يقول، أندرو جاك، مدير المحتوى المخصص بصحيفة فايننشال تايمز، في حوار مع الشبكة الدولة للمحررين GEN:”هناك قلق أكثر من أي وقت حول استدامة منصات الشبكات الاجتماعية بصورتها الحالية، واعتمادها كمنصة وحيدة للتواصل مع القراء، خاصة وأنها باتت تستخدم خوارزميات غامضة”.
مرة أخرى، ليست هناك دعوات لهجرة الشبكات الاجتماعية، الأمر أصعب من أن يكون بهذه البساطة، ولكن هناك نقاش كبير وجاد وساخن أكثر من أي وقت مضى للسعي لوجود بدائل، والضغط على فيس بوك للحصول على مميزات وتحسين بيئة العمل معه، مع ترشيد الاعتماد عليه، عملًا بالمثل العربي الشهير: “لا تضع البيض كله في سلة واحدة”.
فمثلا بعض المواقع بدأت بالاهتمام مجددا بالنقاش والتعليقات لتكون على منصاتها الخاصة، والبعض الأخر نشط المنتديات من جديد، وهناك مبادرات فردية وجماعية لتبني منصات استضافة محتوى بنمط جديد، مثل medium.com وهناك اهتمام متصاعد باستخدام “نيوزليتر” كقناة لتوصيل المحتوى وليس مجرد رسائل جامدة، بل هناك حديث حول بناء منصات اجتماعية محلية صغيرة لنقل الأخبار الموثوقة.
كذلك هناك تركيز أيضا على الاستثمار في التكنولوجيات المتطورة بصورة جماعية أو فردية بغية ابتكار حلول جديدة أو الاستحواذ على شركات صغيرة معنية بالمحتوى بصورة وأخرى؛ فدرس السنوات العشر الماضية التي تركت الإعلام متخلفا عن ركب التطور التكنولوجي كان قاسيًا ومكلفا، وهذا ما جعلنا جميعًا الآن في موقع التابع، المتأثر دائما وليس المؤثر!
الآن كلنا على الهواء، والسيناريوهات كلها مطروحة، وليس هناك بوصلة تخبرنا عن مصير هذه الأفكار الجديدة، ففي النهاية ليست هناك حلول جاهزة، الأمر كله متروك لمساحة التجربة والابتكار والابداع؛ وأمام وسائل الإعلام المصرية والعربية فرصة ذهبية أن تشارك الآن في الحوار العالمي حول تأثير الشبكات الاجتماعية ليس فقط على الإعلام والأخبار المفبركة؛ بل على النموذج الديمقراطي كله في العالم كما تعتقد نيويورك تايمز وعشرات من وسائل الإعلام الأخرى.
كتب – خالد البرماوي